فصل: تفسير الآيات (261- 268):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (261- 268):

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)}
ولما انقضى جواب السؤال عن الملك الذي لا تنفع عنده شفاعة بغير إذنه ولا خلة ولا غيرهما وما تبع ذلك إلى أن ختم بقصة الأطيار التي صغت إلى الخليل بالإنفاق عليها والإحسان إليها ثنى الكلام إلى الأمر بالنفقة قبل ذلك اليوم الذي لا تنفع فيه الوسائل إلا بالوجه الذي شرعه بعد قوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له} [الحديد: 11] نظراً إلى أول السورة تذكيراً بوصف المتقين حثاً عليه، فضرب لذلك مثلاً صريحة لمضاعفتها فاندرج فيه مطلق الأمر بها اندراج المطلق في المقيد وتلويحه الذي هو من جملة المشار إليه بحكيم للاحياء، فصرح بأن النفقة المأمور بها من ذخائر ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه إلا ما شرعه وهو من جليل العزة، وساقه على وجه يتضمن إحياء الموات الذي هو أنسب الأشياء لما قبله من نشر الأموات، فهو إيماء إلى الاستدلال على البعث بأمر محسوس، وذلك من دقيق الحكمة، فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إن خليلي عليه الصلاة والسلام لما كان من الراسخين في رتبة الإيمان أهّلته لامتطاء درجة أعلى من درجة الإيقان بخرق العادة في رفع الأستار على يده عن إحياء الأطيار وأقمت نمطاً من ذلك لعامة الخلق مطوياً في إحياء النبات على وجه معتاد فمن اعتبر به أبصر ومن عمي عنه انعكس حاله وأدبر فقال سبحانه وتعالى: {مثل} فكان كأنه قيل: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} [الحديد: 11] {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا} [البقرة: 254] فإنه مثل {الذين ينفقون} أي يبذلون {أموالهم} بطيب نفس {في سبيل الله} أي الذي له الكمال كله كمثل زارع مثل ما ينفقون {كمثل حبة} مما زرعه. قال الحرالي: من الحب وهو تمام النبات المنتهي إلى صلاحية كونه طعاماً للآدمي الذي هو أتم الخلق، فالحب أكمل من الثمرة طعامية والثمرة إدامية {أنبتت} أي بما جعل الله سبحانه وتعالى لها من قوة الإنبات بطيب أرضها واعتدال ريها {سبع سنابل} بأن تشعب منها سبع شعب في كل شعبة سنبلة وهو من السنبل. قال الحرالي: وهو مجتمع الحب في أكمامه، كأنه آية استحقاق اجتماع أهل ذلك الرزق في تعاونهم في أمرهم، وتعريف بأن الحب يجمعه لا بوحدته {في كل سنبلة مائة حبة} فصارت الحبة سبعمائة حبة بمضاعفة الله لها. قال الحرالي: فضرب المثل للإنفاق في سبيل الله وذكر السبع لما فيه من التمام بالحرث الذي هو كيميا عباده يشهدون من تثميره حيث تصير الحبة أصلاً ويثمر الأصل سنابل ويكون في كل سنبلة أعداد من الحب، فكان ما ذكر تعالى هو أول الإنفاق في سبيل الله وذكر السبع لما فيه من التمام وما يقبله من التكثير، فإن ما أنبت أكثر من سبع إذا قصد بالتكثير أنبأ عنه بالسبع، لأن العرب تكثر به ما هو أقل منه أو أكثر، فجعل أدنى النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف، ثم فتح تعالى باب التضعيف إلى ما لا يصل إليه عد- انتهى.
فالآية من الاحتباك وتقديرها: مثل الذين ينفقون ونفقتهم كمثل حبة وزارعها، فذكر المنفق أولاً دليل على حذف الزارع ثانياً، وذكر الحبة ثانياً دليل على حذف النفقة أولاً.
ولما كان التقدير: فكما ضاعف سبحانه وتعالى للزارع حبته فهو يضاعف للمنفق نفقته، عطف عليه قوله: {والله يضاعف لمن يشاء} بما له من السعة في القدرة وكل صفة حسنى {والله} أي بما له من الكمال في كل صفة {واسع} لا يحد في صفة من صفاته التي تنشأ عنها أفعاله {عليم} فهو يضاعف لأهل النفقة على قدر ما علمه من نياتهم؛ ولما ختم أول آيات هذه الأمثال بهاتين الصفتين ختم آخرها بذلك إشارة إلى أن سعته قد أحاطت بجميع الكائنات فهو جدير بالإثابة في الدارين، وأن علمه قد شمل كل معلوم فلا يخشى أن يترك عملاً.
ولما كان الإنسان قد يزرع ما يكون لغيره بين أن هذا لهم بشرط فقال:- وقال الحرالي: ولما كان للخلافة وخصوصاً بالإنفاق موقع من النفس بوجوه مما ينقص التضعيف أو يبطله كالذي يطرأ على الحرث الذي ضرب به المثل مما ينقص نباته أو يستأصله نبه تعالى على ما يبطل؛ انتهى. فقال سبحانه وتعالى: {الذين ينفقون} ورغبهم في إصلاحها ورهبهم من إفسادها بإضافتها إليهم فقال: {أموالهم} وحث على الإخلاص في قوله: {في سبيل الله} أي الذي له الأسماء الحسنى.
ولما كانت النفس مطبوعة على ذكر فضلها وكان من المستبعد جداً تركها له نبه عليه بأداة البعد إعلاماً بعظيم فضله فقال: {ثم لا يتبعون ما أنفقوا} بما يجاهدون به أنفسهم {مناً} قال الحرالي: وهو ذكره لمن أنفق عليه فيكون قطعاً لوصله بالإغضاء عنه لأن أصل معنى المنّ القطع {ولا أذى} وهو ذكره لغيره فيؤذيه بذلك لما يتعالى عليه بإنفاقه- انتهى. وكذا أن يقول لمن شاركه في فعل خير: لو لم أحضر ما تم، وتكرير {لا} تنبيه على أن انتفاء كل منهما شرط لحصول الأجر {لهم} ولم يقرنه بالفاء إعلاماً بأنه ابتداء عطاء من الله تفخيماً لمقداره وتعظيماً لشأنه حيث لم يجعله مسبباً عن إنفاقهم {أجرهم} أي الذي ذكره في التضعيف فأشعر ذلك أنه إن اقترن بما نهي عنه لم يكن لهم، ثم زادهم رغبة بقوله: {عند ربهم} أي المحسن إليهم بتربيتهم القائم على ما يقبل من النفقات بالحفظ والتنمية حتى يصير في العظم إلى حد يفوت الوصف {ولا خوف عليهم} من هضيمة تلحقهم {ولا هم يحزنون} على فائت، لأن ربهم سبحانه وتعالى لم يترك شيئاً من الفضل اللائق بهم إلا أوصله إليهم.
ولما أفهم هذا وهي ما لا يقترن بالشرط من الإنفاق فتشوقت النفس إلى الوقوف على الحقيقة من أمره صرح به في قوله: {قول معروف} قال الحرالي: وهو ما لا يوجع قلب المتعرض بحسب حاله وحال القائل. ولما كان السائل قد يلح ويغضب من الرد وإن كان بالمعروف من القول فيغضب المسؤول قال: {ومغفرة} للسائل إذا أغضب من رده {خير من صدقة} وهي الفعلة التي يبدو بها صدق الإيمان بالغيب من حيث إن الرزق غيب فالواثق منفق تصديقاً بالخلف إعلاماً بعظم فضله {يتبعها أذى} بمن أو غيره، لأنه حينئذ يكون جامعاً بين نفع وضر وربما لم يف ثواب النفع بعقاب الضر {والله} أي والحال أن الملك الذي لا أعظم منه {غني} فهو لا يقبل ما لم يأذن فيه. ولما رهب المتصدق بصفة الغني رغبة في الحلم عمن أغضبه بكفران الإحسان أو الإساءة في القول عند الرد بالجميل فقال: {حليم} أي لا يعاجل من عصاه بل يرزقه وينصره وهو يعصيه ويكفره. ولما شرط لقبولها شرطاً ووهّى ما عري منها عنه أتبعه التصريح بالنهي عن إهماله والنص على محقه لها وإبطاله وضرب لذلك مثلاً وضرب للمثل مثلاً مبالغة في الزجر عن ذلك فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بذلك صدقوا إقراركم بأن {لا تبطلوا} قال الحرالي: فبين أن ما اشترطه في الأجر المطلق مبطل للإنفاق- انتهى {صدقاتكم بالمن والأذى} فربما وازى عقابهما ثواب الصدقة أو زاد فكان كالإبطال لأوله إلى أن لا ثواب. قال الحرالي: فألحق عمل الإخلاص بآفة ما تعقبه بما بني على أصل الرياء- انتهى. فقال: {كالذي ينفق ماله} لغير الله، إنما ينفقه {رئاء الناس} أي لقصد أن يروه. قال الحرالي: هو الفعل المقصود به رؤية الخلق غفلة عن رؤية الحق وعماية عنه.
ولما شبه المانّ والمؤذي بالمرائي لأنه أسقط الناس وأدناهم همة وأسوؤهم نظراً وأعماهم قلباً فأولو الهمم العلية لاسيما العرب أشد شيء نفرة منه وأبعده عنه وكان لمن يرائي حالان ألحقه بأشدهما فقال: {ولا يؤمن بالله} أي الذي له صفة الكمال {واليوم الآخر} الذي يقع فيه الجزاء بعد نقد الأعمال جيدها من رديئها. قال الحرالي: ولما ضرب مثلاً لنماء النفقة بالحرث ضرب مثلاً لإبطالها بخطأ الحارث في الحرث فقال: {فمثله} في إنفاقه مقارناً لما يفسده، ومثل نفقته {كمثل صفوان} وما زرع عليه، وهو صيغة مبالغة من الصفا وهي الحجارة الملس الصلبة التي لا تقبل انصداعها بالنبات- انتهى. {عليه تراب} فاغتر به بعض الجهلة فزرع عليه.
ولما كانت إزالة التراب عما وقع عليه عقب وقوعه أجدر ما زالت بحذافيره ولاسيما إن كان حجراً أملس قال إبلاغاً في إبطال الرياء للعمل: {فأصابه} أي عقب كون التراب عليه من غير مهمة بخلاف ما يأتي من الربوة فإنها صفة لازمة فلو تعقبها المطر لدام بدوامها فأفسدها {وابل} أي مطر كثير فأزال التراب عنه {فتركه صلداً} أي صخراً لا يقبل النبات بوجه بل يخيب من يأمله كما يقال أصله الزند إذا لم يور، فجعل قلب المؤذي المانّ بمنزلة الصفوان الذي أصابه وابل المطر، فأذهب عائد نفقته كما أذهب بذر الحارث على الصفوان وابل المطر الذي شأنه أن يصلح البذر- قاله الحرالي وفيه تصرف.
ولما بان بهذا بطلان العمل في المثل والممثول ترجمة بقوله: {لا يقدرون} أي الممثل لهم والممثل بهم {على شيء مما كسبوا} فالآية من الاحتباك ولما كان الزارع على مثل هذا عجباً في الضلال والغباوة وكان التقدير: فإن الله لا يقبل عمل المؤذين كما لا يقبل عمل المرائين، عطف عليه معلماً أنه يعمي البصراء عن أبين الأمور إذا أراد ومهما شاء فعل قوله: {والله} الذي له الحكمة كلها {لا يهدي} أي لوجه مصلحة. ولما كان كل من المؤذي والمرائي قد غطى محاسن عمله بما جره من السوء قال: {القوم الكافرين} وفي ذكره ولهذه الجملة وحدها أشد ترهيب للمتصدق على هذا الوجه.
ولما فرغ من مثل العاري عن الشرط ضرب للمقترن بالشرط من الإنفاق مثلاً منبهاً فيه على أن غيره ليس مبتغى به وجه الله فقال: {ومثل} قال الحرالي: عطفاً على {الذي ينفق ماله رئاء الناس} {ولا يؤمن بالله واليوم الآخر} عطف مقابلة وعلى {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} [البقرة: 261] عطف مناسبة- انتهى. {الذين ينفقون أموالهم} أي مثل نفقاتهم لغير علة دنياوية ولا شائبة نفسانية بل {ابتغاء مرضات الله} أي الذي له الجلال والإكرام فلذلك صلح كل الصلاح فعري عن المن والأذى وعيرهما من الشوائب الموجبة للخلل قال الحرالي: والمرضاة مفعلة لتكرر الرضى ودوامه- انتهى. {وتثبيتاً من أنفسهم} بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم والصفح والصبر على جميع مشاق التكاليف فإن من راض نفسه بحملها على بذل المال الذي هو شقيق الروح وذلت له خاضعة وقل طمعها في اتباعه لشهواتها فسهل عليه حملها على سائر العبادات، ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طمعاً في اتباع الشهوات ولزوم الدناءات، فمن للتبعيض مفعول به مثلها في قولهم: لين من عطفه وحرك من نشاطه {كمثل جنة} أي بستان ومثل صاحبها. قال الحرالي: ولما كان حرث الدنيا حباً وثمراً جعل نفقات الأخرى كذلك حباً وتمراً. فمن أنفق في السبيل جعل مثله كالحب، ومن أنفق ابتغاء لمرضاة الله جعل مثله كالجنة التي لها أصل ثابت تدور عليها الثمرات وهي ثابتة وتستغني من الماء بما لا يستغني به الحرث لأن الحرث مستجد في كل وقت، كما أن الجهاد واقع عند الحاجة إليه والمنفق ابتغاء مرضاة الله ينفق في كل وجه دائم الإنفاق، فكان مثله مثل الجنة الدائمة ليتطابق المثلان بالممثولين، فعمت هذه النفقة جهات الإنفاق كلها في جميع سبل الخير- انتهى.
{بربوة} أي مكان عال ليس بجبل. قال الحرالي: في إعلامه أن خير الجنات ما كان في الربوة لتنالها الشمس وتخترقها الرياح اللواقح، فأما ما كان من الجنان في الوهاد تجاوزتها الرياح اللواقح من فوقها فضعفت حياتها، لأن الرياح هي حياة النبات «الريح من نفس الرحمن» انتهى. ثم وصفها بقوله: {أصابها وابل} أي مطر كثير {فأتت أكلها} أي أخرجته بإذن الله سبحانه وتعالى حتى صار في قوة المعطي {ضعفين} أي مثل ما كانت تخرجه لو أصابها دون الوابل- كذا قالوا: مثلين، والظاهر أن المراد أربعة أمثاله، لأن المراد بالضعف قدر الشيء ومثله معه فيكون الضعفان أربعة- والله سبحانه وتعالى أعلم؛ والآية من الاحتباك، ذكر المنفق أولاً دال على حذف صاحب الجنة ثانياً، وذكر الجنة ثانياً دال على حذف النفقة أولاً.
ولما كان الوابل قد لا يوجد قال: {فإن لم يصبها وابل فطل} أي فيصيبها لعلوها طل، وهو الندى الذي ينزل في الضباب. وقال الحرالي: الطل سن من أسنان المطر خفي لا يدركه الحس حتى يجتمع، فإن المطر ينزل خفياً عن الحس وهو الطل، ثم يبدو بلطافة وهو الطش، ثم يقوى وهو الرش، ثم يتزايد ويتصل وهو الهطل، ثم يكثر ويتقارب وهو الوابل، ثم يعظم سكبه وهو الجود؛ فله أسنان مما لا يناله الحس للطافته إلى ما لا يحمله الحس كثرة- انتهى. والمعنى أن أهل هذا الصنف لا يتطرق إلى أعمالهم فساد، غايتها أن يطرقها النقص باعتبار ضعف النيات، ولذلك كان التقدير تسبيباً عن ذلك: فالله بما تستحقون على نياتكم عليم، فعطف عليه قوله: {والله} أي المحيط علماً وقدرة {بما تعملون} أي بما ظهر منه {بصير} كما هو كذلك بما بطن، فاجتهدوا في إحسان الظاهر والباطن. وقدم مثل العاري عن الشرط عليه لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
ولما قدم سبحانه وتعالى أن المن مبطل للصدقة ومثله بالرياء وضرب لهما مثلاً ورغب في الخالص وختم ذلك بما يصلح للترهيب من المن والرياء رجع إليهما دلالة على الاهتمام بهما فضرب لهما مثلاً أوضح من السالف وأشد في التنفير عنهما والبعد منهما فقال- وقال الحرالي: ولما تراجع خبر الإنفاقين ومقابلهما تراجعت أمثالها فضرب لمن ينفق مقابلاً لمن يبتغي مرضاة الله تعالى مثلاً بالجنة المخلفة، انتهى.
فقال- منكراً على من يبطل عمله كأهل مثل الصفوان بعد كشف الحال بضرب هذه الأمثال: {أيود أحدكم} أي يحب حباً شديداً {أن تكون له جنة} أي حديقة تستر داخلها وعين هنا ما أبهمه في المثل الأول فقال: {من نخيل} جمع نخلة وهي الشجرة القائمة على ساق الحية من أعلاها أشبه الشجر بالآدمي، ثابت ورقها، مغذ مؤدم ثمرها، في كليتها نفعها حتى في خشبها طعام للآدمي بخلاف سائر الشجر، مثلها كمثل المؤمن الذي ينتفع به كله {وأعناب} جمع عنب وهو شجر متكرم لا يختص ذهابة بجهة العلو اختصاص النخلة بل يتفرع علواً وسفلاً ويمنة ويسرة، مثله مثل المؤمن المتقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة- قاله الحرالي.
ولما كانت الجنان لا تقوم وتدومها إلا بالماء قال: {تجري من تحتها الأنهار} أي لكرم أرضها. وقال الحرالي: وفي إشعاره تكلف ذلك فيها بخلاف الأولى التي هي بعل فإن الجائحة في السقي أشد على المالك منها في البعل لقلة الكلفة في البعل ولشدة الكلف في السقي- انتهى.
ولما وصفها بكثرة الماء ذكر نتيجة ذلك فقال: {له فيها من كل الثمرات} أي مع النخل والعنب. ولما ذكر كرمها ذكر شدة الحاجة إليها فقال: {وأصابه} أي والحال أنه أصابه {الكبر} فصار لا يقدر على اكتساب {وله ذرية ضعفاء} بالصغر كما ضعف هو بالكبر {فأصابها} أي الجنة مرة من المرات {إعصار} أي ريح شديدة جداً. قال الحرالي: صيغة اشتداد بزيادة الهمزة والألف فيه من العصر وهو الشدة المخرجة لخبء الأشياء، والإعصار ريح شديدة في غيم يكون فيها حدة من برد الزمهرير، وهو أحد قسمي النار، نظيره من السعير السموم. وقال الأصفهاني: ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود {فيه نار فاحترقت} تلك الجنة وبقي صاحبها بمضيعة مع ضعفه وثقل ظهره بالعيال وقلة المال. قال الحرالي: من الاحتراق وهو ذهاب روح الشيء وصورته ذهاباً وحياً بإصابة قاصف لطيف يشيع في كليته فيذهبه ويفنيه؛ فجعل المثل الأول في الحب أي الذي على الصفوان لآفة من تحته. وجعل المثل في الجنة بجائحة من فوقه كأنهما جهتا طرو العلل والآفات من جهة أصل أو فرع- انتهى. فحال من رأى في أعماله أو آذى في صدقة ماله في يوم القيامة وأهواله كحال هذا في نفسه وعياله عند خيبة آماله، وروى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير عن عبيد بن عمير قال قال عمر رضي الله تعالى عنه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت {أيود أحدكم} إلى أن قال: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر رضي الله تعالى عنه: أيّ عمل؟ قال ابن عباس: لعمل، قال عمر رضي الله تعالى عنه: لرجل غني يعمل بطاعة الله سبحانه وتعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
ولما بين لهم هذا البيان الذي أبهت بلغاء الإنس والجان نبههم على تعظيمه لتبجيله وتكريمه بقوله مستأنفاً: {كذلك} أي مثل هذا البيان {يبين الله} أي الذي له الكمال كله {لكم الآيات} أي كلها {لعلكم تتفكرون} أي ليكون حالكم حال من يرجى أن يحمل نفسه على الفكر، ومن يكون كذلك ينتفع بفكره. وقال الحرالي: فتبنون الأمور على تثبيت، لا خير في عبادة إلا بتفكر، كما أن الباني لابد أن يفكر في بنائه، كما قال الحكيم: أول الفكرة آخر العمل وأول العمل آخر الفكرة، كذلك من حق أعمال الدين أن لا تقع إلا بفكرة في إصلاح أوائلها السابقة وأواخرها اللاحقة، فكانوا في ذلك صنفين بما يشعر به {لعلكم} مطابقين للمثل متفكر مضاعف حرثه وجنته وعامل بغير فكرة تستهويه أهواء نفسه فتلحقه الآفة في عمله في حرثه وجنته من سابقه أو لاحقه- انتهى.
ولما رغب في الفعل وتخليصه عن الشوائب أتبعه المال المنفق منه فأمر بطيبه فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {أنفقوا} أي تصديقاً لإيمانكم {من طيبات ما كسبتم} وإنما قدم الفعل لأنه ألصق بالإنسان وتطييبه أعم نفعاً، ولما ذكر ما أباحه سبحانه وتعالى من أرباح التجارات ونحوها أتبعه ما أباحه من منافع النباتات ونحوها منبهاً بذلك على أن كل ما يتقلب العباد فيه من أنفسهم وغيرها نعمة منه أنشأها من الأرض التي أبدعها من العدم ترغيباً في الجود به وفي جعله خياراً حلالاً وترهيباً من الشح به وجعله ديناً أو حراماً فقال: {ومما أخرجنا} أي بعظمتنا {لكم} نعمة منا عليكم {من الأرض} قال الحرالي: قدم خطاب المكتسبين بأعمالهم كأنهم المهاجرون وعطف عليهم المنفقين من الحرث والزرع كأنهم الأنصار- انتهى.
ولما أمر بذلك أكد الأمر به بالنهي عن ضده فقال: {ولا تيمموا} أي لا تتكلفوا أن تقصدوا {الخبيث منه} أي خاصة {تنفقون} قال الحرالي: الخبيث صيغة مبالغة بزيادة الياء من الخبث وهو ما ينافر حس النفس: ظاهره وباطنه، في مقابله ما يرتاح إليه من الطيب الذي ينبسط إليه ظاهراً وباطناً، وقال: ففي إلاحته معنى حصر كأنهم لا ينفقون إلا منه ليتجاوز النهي من ينفق من طيبه وخبيثه على غير قصد اختصاص النفقة من الخبيث- انتهى. ثم أوضح قباحة ذلك بقوله: {ولستم بآخذيه} أي إذا كان لكم على أحد حق فأعطاكموه {إلا أن تغمضوا} أي تسامحوا {فيه} بالحياء مع الكراهة. قال الحرالي: من الإغماض وهو الإغضاء عن العيب فيما يستعمل، أصله من الغمض وهي نومة تغشي الحس ثم تنقشع، وقال: ولما كان الآخذ هو الله سبحانه وتعالى ختم بقوله: {واعلموا} انتهى.
وعبر بالاسم الأعظم فقال: {أن الله} المستكمل لجميع صفات الكمال من الجلال والجمال {غني} يفضل على من أسلف خيراً رغبة فيما عنده وليست به حاجة تدعوه إلى أخذ الرديء ولا رغبكم في أصل الإنفاق لحاجة منه إلى شيء مما عندكم وإنما ذلك لطف منه بكم ليجري عليه الثواب والعقاب {حميد} يجازي المحسن أفضل الجزاء على أنه لم يزل محموداً ولا يزال عذب أو أثاب. قال الحرالي: وهي صيغة مبالغة بزيادة ياء من الحمد الذي هو سواء أمر الله الذي لا تفاوت فيه من جهة إبدائه وافق الأنفس أو خالفها.
ولما رغب سبحانه وتعالى في الإنفاق وختم آياته بما يقتضي الوعد من أصدق القائلين بالغنى والإثابة في الدارين أتبعه بما للعدو الكاذب من ضد ذلك فقال محذراً من البخل- في جواب من كأنه قال: هذا ما لا يشك فيه فما للنفوس لا توجد غالباً إلا شحيحة بالإنفاق-: {الشيطان} أي الذي اسمه أسوأ الأسماء، فإنه يقتضي الهلاك والبعد، وأحد الوصفين كاف في مجانبته فكيف إذا اجتمعا! {يعدكم الفقر} المانع من الإنفاق. قال الحرالي: الذي لخوفه تقاطع أهل الدنيا وتدابروا وحرصوا وادخروا. وكل ذلك لا يزيل الفقر، كل حريص فقير ولو ملك الدنيا، وكل مقتنع غني، ومن حق من كان عبداً لغني أن يتحقق أنه غني يغني سيده، ففي خوف الفقر إباق العبد عن ربه؛ والفقر فقد ما إليه الحاجة في وقت من قيام المرء في ظاهره وباطنه- انتهى. {ويأمركم بالفحشاء} المبطلة له من المن والأذى وغيرهما من مستلذات الأنفس وربما كان فيها إتلاف الأموال وإذهاب الأرواح. وقال الحرالي: وكل ما اجتمعت عليه استقباحات العقل والشرع والطبع فهو فحشاء، وأعظم مراد بها هنا البخل الذي هو أدوأ داء، لمناسبة ذكر الفقر، وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة ويلازمه الحرص ويتابعه الحسد ويتلاحق به الشر كله انتهى وفيه تصرف.
ولما ذكر ما للعدو من الشر أتبعه سبحانه وتعالى بما له من الخير فقال مصرحاً بما تقدم التلويح به: {والله} أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى الرحيم الودود {يعدكم مغفرة منه} لما وقع منكم من تقصير، وفيه إشعار بأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره لما له من الإحاطة بصفات الكمال ولما جبل عليه الإنسان من النقص {وفضلاً} بالزيادة في الدارين، وكل نعمة من فضل؛ ثم أكد ذلك بقوله: {والله} أي المحيط بكل كمال {واسع} لتضمنه معنى حليم غني، وأتبعه بقوله: {عليم} إشارة إلى أنه لا يضيع شيئاً وإن دق. قال الحرالي: وفي إشعاره توهين لكيد الشيطان ووعد كريم للمفتون بخوف الفقر وعمل الفحشاء لما علمه من ضعف الأنفس وسرعة قبولها من الوسواس- انتهى. فختم آخر آيات الأمثال بما ختم به أولها ترغيباً وترهيباً.